فصل: تفسير الآيات (119- 121):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (119- 121):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)}
وقوله سبحانه: {ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَكُونُواْ مَعَ الصادقين} هذا الأمر بالكوْن مع الصَّادقين حَسَنٌ بعد قصَّة الثلاثة حين نَفَعَهم الصِّدْق، وذَهَبَ بهم عَنْ منازل المنافقين، وكان ابنُ مسعودٍ يتأوَّل الآية في صِدْق الحديث، وإِليه نحا كَعْبُ بنُ مالك.
وقوله سبحانه: {مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأعراب أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله...} الآية؛ هذه الآية معاتبةٌ للمؤمنين من أهل يَثْرِبَ وقبائل العرب المُجَاورة لها، على التخلُّف عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في غزوةٍ، وقُوَّةُ الكلام تعطي الأمر بِصُحْبَتِهِ أَيْنَ ما توجَّه غازياً وبَذْلِ النفوس دونه، والمخُمَصَة مَفْعَلَةٌ من خُمُوص البَطْنِ، وهو ضُمُوره واستعير ذلك لحالة الجُوع، إِذ الخُمُوص ملازمٌ له، ومن ذلك قولُ الأَعْشَى: [الطويل]
......................... ** تَبِيتُونَ في المَشْتى مِلاَءً بُطُونُكُمْ

وَجَارَاتُكُمْ غَرْثَى يَبِتْنَ خَمَائِصَا **

وقوله: {وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً}: لفظٌ عامٌّ لقليلِ ما يصنعه المؤمنون بالكَفَرةِ- من أخْذ مالٍ، أو إِيراد هوانٍ- وكثيره و{نَّيْلاً}: مصدر نَالَ يَنَالُ؛ وفي الحديث: «مَا ازداد قومٌ مِنْ أَهْلِيهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بُعْداً إِلاَّ ازدادوا مِنَ اللَّهِ قُرْباً». * ت *: وروى أَبو داود في سننه، عن أبي مالكٍ الأشعريِّ، قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ فَصَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَمَاتَ، أَوْ قُتِلَ، فَهُوَ شَهِيدٌ، أَوْ وَقَصَهُ فَرَسُهُ أَوْ بَعِيرُهُ أَوْ لَدَغَتْهُ هَامَّةٌ، أَوْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ بِأَيِّ حَتْفٍ شَاءَ اللَّهُ فَإِنَّهُ شَهِيدٌ، وإِنَّ لَهُ الْجَنَّةَ»، انتهى.
قال ابنُ العربي في أحكامه: قَوْلُه عزَّ وجلَّ: {وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ}: يعني إِلاَّ كُتِبَ لهم ثوابُهُ، وكذلك قال في المجاهد: «إِنَّ أَرْوَاثَ دَوَابِّهِ وأَبْوَالَهَا حَسَنَاتٌ له» وَكَذَلِكَ أَعطَى سبحانه لأَهْل العُذْر من الأجر ما أعطَى للقويِّ العاملِ بفضله، ففي الصحيح، بأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال في هذه الغزوة بعينها: «إِنَّ بِالمَدِينَةِ قَوْماً مَا سَلَكْتُمْ وَادِياً وَلاَ قَطَعْتُمْ شِعْباً إِلاَّ وَهُمْ مَعَكُمْ حَبَسَهُمُ العُذْرُ» انتهى.

.تفسير الآية رقم (122):

{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)}
وقوله سبحانه: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً...} الآية: قالتْ فرقة: إِن المؤمنين الذين كانوا بالبادية سكَّاناً ومبعوثين لتعليم الشَّرْع، لما سمعوا قولَ اللَّهَ عَزَّ وجلَّ: {مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأعراب...} [التوبة: 120]، أهمَّهم ذلك، فنفروا إِلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ خشية أنْ يكونُوا عُصَاةً في التخلُّف عن الغَزْوِ، فنزلَتْ هذه الآية في نَفْرِهِمْ ذلك.
وقالتْ فرقة: سَبَبُ هذه الآية أن المنافقين، لما نزلَتِ الآيات في المتخلِّفين، قالوا: هَلَكَ أَهْلُ البوادِي، فنزلَتْ هذه الآية مقيمةً لعُذْرِ أهل البوادي.
قال * ع *: فيجيء قوله: {مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأعراب}: عمومٌ في اللفظ، والمراد به في المَعنَى الجمهورُ والأكْثَرُ، وتجيءُ هذه الآية مبيِّنة لذلك.
وقالتْ فرقةٌ: هذه الآية ناسِخَةٌ لكُلِّ ما ورد من إِلزام الكافَّة النَّفير والقِتَال، وقال ابنُ عبَّاس ما معناه: أَنَّ هذه الآية مختصَّة بالبعوثِ والسَّرايا والآية المتقدِّمة ثابتةُ الحُكْم مع خروجِ رسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم في الغَزْو، وقَالَتْ فرقةٌ: يشبه أنْ يكون التفقُّه في الغَزْو وفي السرايا، لِمَا يَرَوْنَ من نُصْرَةِ اللَّه لدينِهِ، وإِظهارِهِ العَدَد القليلَ من المؤمنين على الكثير من الكافرين، وعِلْمِهم بذلك صحَّة دِينِ الإِسلام ومكانَتِهِ.
* ع *: والجمهور على أن التفقُّه إِنما هو بمشاهدة رسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم وصُحْبَته، وقيل غير هذا.
* ت * وَصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قَالَ: «لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا استنفرتم فانفزوا»، وقد استنفر رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الناس في غزوة تَبُوكَ، وأعلن بها حَسَبَ ما هو مصرَّح به في حديث كَعْب بن مالِكٍ في الصِّحَاح، فكان العَتَبُ متوجِّهاً على مَنْ تأخَّر عنه بعد العِلْمِ، فيظهر واللَّه أعلم، أنَّ الآية الأولَى باقٍ حكمها؛ كما قال ابن عباس، وتكون الثانية ليستْ في معنى الغَزْو، بل في شأن التفقُّه في الدِّين على الإِطلاق وهذا هو الذي يُفْهَمُ من استدلالهم بالآية علَى فَضْلِ العلْم، وقد قالت فرقة: إِن هذه الآية لَيْسَتْ في معنى الغَزْو، وإِنما سببها قبائلٌ مِنَ العرب أصابتهم مجاعةٌ، فنفزوا إلى المدينة لِمَعْنَى المعاشِ، فكادوا يُفْسِدونها، وكان أكثرهم غَيْرَ صحيحِ الإِيمانِ، وإِنما أَضْرَعَه الجُوع، فنزلَتِ الآية في ذلك، والإِنذارُ في الآية عامٌّ للكفر والمعاصي، والحذرِ منها أيضاً؛ كذلك قال ابن المبارك في رقائقه أخبرنا موسَى بْنُ عُبَيْدَة، عن محمد بن كَعْب القُرَظِيِّ، قال: إِذا أراد اللَّه تبارك وتعالَى بِعَبْدٍ خيراً، جعل فيه ثلاثَ خصالٍ: فقْهاً في الدِّينِ، وزَهَادةً في الدنيا، وبَصَّرَهُ بعيوبه. انتهى.

.تفسير الآيات (123- 127):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)}
وقوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفار} قيل: إِنَّ هذه الآية نزَلَتْ قبل الأمر بقتال الكُفَّار كافَّة، فهي من التدريجِ الذي كان في أوَّل الإِسلام.
قال * ع *: وهذا ضعيفٌ فإِن هذه السورة من آخر ما نَزَلَ.
وقالتْ فرقة: معنى الآية أنَّ اللَّه تبارك وتعالى أمر فيها المؤمنين أنْ يقاتل كُلُّ فريقٍ منهم الجنْسَ الذي يليه من الكَفَرة.
وقوله سبحانه: {وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً}: أي: خشونةً وبأساً، ثم وعَدَ سبحانه في آخر الآية وحَضَّ على التقوَى التي هي مِلاَكُ الدِّينِ والدنيا، وبها يُلْقَى العَدُوُّ، وقد قال بعضُ الصحابة: إِنما تُقَاتِلُونَ النَّاس بأَعمالكم، وَوَعَد سبحانه أنه مع المتَّقِينَ، وَمَنْ كان اللَّه مَعِهُ، فَلَنْ يُغْلَبَ.
وقوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إيمانا...} الآية: هذه الآية نزلَتْ في شأن المنافقين، وقولهم: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إيمانا} يحتمل أنْ يكون لمنافقينَ مِثْلِهِمْ، أو لقومٍ من قراباتهم؛ علَى جهة الاستخفاف والتحقير لشأن السُّورة، ثم ابتدأ عزَّ وجلَّ الردَّ عليهم بقوله: {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً} وذلك أنه إذا نزلَتْ سورةٌ، حَدَثَ للمؤمنين بها تصديقٌ خاصٌّ، لم يكنْ قبلُ، فتصديقهم بما تضمَّنته السورةُ مِنْ أخبار وأمرٍ ونَهْيٍ أمرٌ زائد على الذي كان عِنْدهم قبلُ، وهذا وجْهٌ من زيادة الإِيمان.
ووجه آخر؛ أنَّ السورة ربَّما تضمَّنت دليلاً أو تنبيهاً على دليل، فيكون المؤمن قد عَرَفَ اللَّه بعدَّة أدلَّة، فإِذا نزلت السورةُ، زادَتْ في أدلَّته، وَوَجْهٌ آخر من وجوه الزيادة أنَّ الإِنسان ربَّما عرضه شكٌ يسيرٌ، أو لاحَتْ له شبهة مشغِّبة، فإِذا نزلَتِ السورة، ارتَفَعَتْ تلك الشبهة، وقَوِيَ إِيمانه وارتقى اعتقاده عن معارَضَة الشبهاتِ، {الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ}: هم المنافقون، والرجْسُ؛ في اللغة: يجيء بمعنى القَذَرِ، ويجيء بمعنى العذاب، وحالُ هؤلاء المنافقين هي قَذَرٌ، وهي عذابٌ عاجلٌ، كفيلٌ بآجِلٍ، وإِذا تَجدَّد كفْرُهم بسورةٍ، فقد زاد كُفْرهم، فذلك زيادةُ رجْسٍ إِلى رِجْسهم.
وقوله سبحانه: {أَوَلاَ يَرَوْنَ} يعني: المنافقين، وقرأ حَمزة: {أَوَلاَ تَرَوْنَ}- بالتاء من فوق-؛ على معنى: أولا تَرَوْنَ أيُّها المؤمنون؛ {أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ}، أي: يُخْتَبرُونَ، وقرأ مجاهدٌ: {مَرْضَةً أَوْ مَرْضَتَيْنِ}، والذي يظهر مما قبل الآية، ومما بعدها أَنَّ الفتنة والاختبار إِنما هي بكَشْفِ اللَّه أَسرارهم وإِفشائه عقائدهم؛ إِذ يعلمون أنَّ ذلك مِنْ عند اللَّه، وبهذا تقومُ الحُجَّة عليهم، وأما الاختبار بالمَرَضِ فهو في المؤمنين.
وقوله سبحانه: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ}: المعنى: وإِذا ما أنزلَتْ سورةٌ فيها فضيحةُ أسرار المنافقين، {نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ}: أي: هلْ معكم مَنْ يَنْقُلُ عَنْكم، هَلْ يراكم من أحدٍ حين تدبِّرون أموركم، {ثُمَّ انصرفوا} عَنْ طريق الاهتداء؛ وذلك أنهم وقْتَ كشْف أسرارهم والإِعلام بمغيِّبات أمورهم، يقع لهم لا مَحَالة تَعَجُّب وتوقُّف ونَظَر، فلو أريد بهم خَيْرٌ، لكان ذلك الوَقْتُ مَظِنَّةَ الاهتداء، وقد تقدَّم بيانُ قوله: {صَرَفَ الله قُلُوبَهُم}.

.تفسير الآيات (128- 129):

{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)}
وقوله عز وجل: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ...} الآية مخاطبةٌ للعرب في قول الجمهور، وهذا على جهة تعديدِ النعمة عَلَيْهِمْ؛ إِذْ جاءَهم بلسانِهِمْ، وبما يفهمونه منَ الأَغراض والفصاحةِ، وشُرِّفوا به غَابِرَ الدهْرِ.
وقوله: {مِّنْ أَنفُسِكُمْ}: يقتضي مدْحاً لنسبه صلى الله عليه وسلم، وأنه من صميمِ العَرَبِ، وشَرَفِها، وقرأ عبد اللَّه بن قُسَيْطٍ المَكِّيُّ: {مِنْ أَنْفَسِكُمْ}- بفتح الفاء-؛ من النَّفَاسة، ورويتْ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقوله: {مَا عَنِتُّمْ}: معناه عَنَتُكُمْ؛ ف ما مصدريةٌ، والعَنَت: المشقَّة، وهي هنا لفظةٌ عامَّة، أي: عزيز عليه مَا شَقَّ عليكم: مِنْ قتلٍ وإِسارٍ وامتحان؛ بحسب الحَقِّ واعتقادكم أيضاً معه، {حَرِيصٌ َلَيْكُم} أي: علَى إيمانكم وهداكم.
وقوله: {بالمؤمنين رَءُوفٌ} أي: مبالغٌ في الشفقة عليهم، قال أبو عُبَيْدة: الرَّأْفَة أرقُّ الرحمة.
ثم خاطَبَ بحانه نبيَّه بقوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ}، أي: أعرضوا، {فَقُلْ حَسْبِيَ الله لا إله إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ العرش العظيم}: هذه الآية من آخر مَا نَزَلَ، وصلى اللَّه علَى سَيِّدنا ومولانا محمَّد وعلَى آله وصَحْبه وسَلَّم تسليماً كثيراً، ولا حول ولا قوة إلاَّ باللَّه العلي العظيم.

.تفسير سورة يونس عليه السلام:

بعضها نزل بمكة وبعضها بالمدينة.

.تفسير الآيات (1- 2):

{الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)}
قولُه عزَّ وجلَّ: {الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم} المراد ب {الكتاب}: القُرآن، و{الحكيم}: بمعنى مُحْكَم، ويمكن أنْ يكون: حكيم بمعنى ذِي حِكْمة، فهو على النَّسب.
وقوله عز وجل: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا...} الآية: قال ابن عباس وغيره: سبب هذه الآية استبعاد قُرَيْش أَنْ يبعث اللَّه بشراً رسولاً، والقَدَمُ هنا مَا قُدِّم، واختلف في المراد بها هاهنا، فقال ابنُ عبَّاس ومجاهد والضحاك وغيرهم: هي الأعمال الصَّالحات من العبادات. وقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة: هي شَفَاعة محمَّد صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عباس أيضاً وغيره: هي السعادةُ السَّابقة لهم في اللَّوْح المحفوظ، وهذا أليق الأقْوَالِ بالآية؛ ومن هذه اللفظة قَوْلُ حَسَّان رضي اللَّه عنه: [الطويل]
لَنَا القَدَمُ العُلْيَا إِلَيْكَ وَخَلْفَنَا ** لأَوَّلِنَا في طَاعَةِ اللَّهِ تَابعُ

ومن هذه اللفظة قوله صلى الله عليه وسلم: «حَتَّى يَضَعَ الجَبَّارُ فِيهَا قَدَمَهُ» أيْ ما قَدَّمَ لها، هذا على أن الجبَّار اسم اللَّه تعالى، والصِّدْق هنا بمعنى الصَّلاح، وقال البخاريُّ: قال زَيْدُ بن أسْلَمَ: {قَدَمَ صِدْقٍ} مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وقولهم: {إِنَّ هذا لساحر مُّبِينٌ}: إِنما هو بسبب أَنَّه فَرَّق بذلك كلمتهم، وحَالَ بين القريب وقريبه؛ فأشبه ذلك ما يفعله السَّاحر في ظَنِّهم القاصِرِ؛ فَسَمَّوْه سحراً.

.تفسير الآيات (3- 4):

{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)}
وقوله سبحانه: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السموات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ...} الآية: هذا ابتداء دعاءٍ إِلَى عبادة اللَّه عزَّ وجلَّ وتوحيدِهِ، وذَكَرَ بعضُ الناس أَنَّ الحكمة في خَلْقِ اللَّه تعالَى هذه الأشياءَ في مُدَّة محدودةٍ ممتدَّة، وفي القُدْرة أنْ يقول لها: كُنْ؛ فَتَكُون، إِنما هي لِيُعَلِّمَ عباده التُّؤَدة والتماهُلَ في الأمور، قال * ع *: وهذا مما لا يُوصَلُ إِلى تعليله، وعلى هذا هي الأجْنَةُ في البُطُون، وخَلْقُ الثمار، وغير ذلك، واللَّه عزَّ وجلَّ قد جَعَلَ لكلِّ شيء قَدْراً، وهو أعلم بوجْهِ الحكْمَةِ في ذلك.
وقوله سبحانه: {يُدَبِّرُ الأمر} يصحُّ أن يريد بالأمر اسم الجنْس من الأمور، ويصحُّ أن يريد الأمر الذي هو مصْدَر أَمر يأْمُرُ، وتدبيره لا إله إلا هو إِنما هو الإِنفاذ؛ لأنه قد أحاط بكلِّ شيء عِلْماً، قال مجاهدٌ: {يُدَبِّرُ الأمر}: معناه: يَقْضيه وحْده.
وقوله سبحانه: {مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ}؛ ردٌّ على العرب في اعتقادها؛ أن الأصنام تشفع لها عند اللَّه.
{ذلكم الله} أي: الذي هذه صفاتُهُ فاعبدوه، ثم قَرَّرهم على هذه الآيات والعبر، فقال: {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ}.
وقوله: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً...} الاية إِنباءٌ بالبعث.
وقوله: {يَبْدَأُ الخلق} يريد: النشأة الأولى، والإِعادةُ: هي البَعْثُ من القبور.
{لِيَجْزِيَ}: هي لام كَيْ، والمعنى: أنَّ الإِعادة إِنما هي ليقع الجزاءُ على الأعمال.
وقوله: {بالقسط}: أي: بالعدل.
وقوله: {الذين كَفَرُواْ}: ابتداء، والحَمِيمُ الحارُّ المسخَّن، وحميمُ النار فيما ذُكِرَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَدْنَاهُ الكَافِرُ مِنْ فِيهِ، تَسَاقَطَتْ فَرْوَةُ رَأْسِهِ» وهو كما وصفه سبحانه: {يَشْوِي الوجوه} [الكهف: 29].

.تفسير الآيات (5- 9):

{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)}
وقوله سبحانه: {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَاءً والقمر نُوراً...} الآية: هذا استمرارٌ على وَصْف آياته سبحانه، والتنْبيه على صنعته الدَّالة علَى وحدانيته، وعظيم قُدْرته.
وقوله: {قَدَّرَهُ مَنَازِلَ}: يحتمل أنْ يعود الضمير على القمر وحده؛ لأنه المراعَى في معرفة عَدَدِ السِّنينَ والحِسَابِ عنْد العرب، ويحتمل أنْ يريدَ الشَّمْسَ والقَمَرَ معاً، لكنه اجتزأ بذكْر أَحدهما؛ كما قال: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62].
وقوله: {لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} أيْ: رفقاً بكم، ورَفعاً للالتباس في معايشِكُم وغير ذلك مما يُضْطَرُّ فيه إلى معرفة التواريخ.
وقوله: {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}: إِنما خصهم، لأن نَفْعَ هذا فيهم ظَهَرَ.
وقوله سبحانه: {إِنَّ فِي اختلاف اليل والنهار وَمَا خَلَقَ الله فِي السموات والأرض...} الآية: آية اعتبار وتنبيهٍ، والآياتُ: العلامات، وخصَّص القوم المتَّقين؛ تشريفاً لهم؛ إِذ الاعتبار فيهم يقع، ونسبتهم إِلَى هذه الأشياء المَنْظُور فيها أَفْضَلُ مِنْ نسبة مَنْ لم يَهْتَدِ ولا اتقى.
وقوله سبحانه: {إِنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا...} الآية: قال أبو عُبَيْدة وغيره: {يَرْجُونَ}، في هذه الآية: بمعنى يخافُون؛ واحتجوا ببَيْتِ أَبي ذُؤَيْبٍ: [الطويل]
إِذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا ** وَحَالَفَهَا فِي بَيْتِ نُوبٍ عَوَامِلِ

وقال ابن سِيدَه والفرّاء: لفظة الرَّجاءِ، إِذا جاءَتْ منفيَّةً، فإِنها تكونُ بمعنى الخَوْفِ، فعَلَى هذا التأويل معنى الآية: إِنَّ الذين لا يخافون لقاءنا، وقال بعض أهل العلم: الرجاءُ، في هذه الآية: على بابه؛ وذلك أن الكافر المكذِّب بالبعث لا يُحْسِنُ ظَنًّا بأنه يَلْقَى اللَّه، ولا له في الآخرة أمَلٌ؛ إِذ لو كان له فيها أَمَلٌ؛ لقارنه لا محالة خَوْفٌ، وهذه الحالُ من الخَوْفِ المقارِنِ هي القائِدَةُ إِلى النجاة.
قال * ع *: والذي أقُولُ به: إنَّ الرجاء في كلِّ موضع هو علَى بابه، وأنَّ بيت الهُذَلِيِّ معناه: لَمْ يَرْجُ فَقَدْ لَسْعِهَا، قال ابن زَيْد: هذه الآية في الكُفَّار.
وقوله سبحانه: {وَرَضُواْ بالحياة الدنيا}: يريد: كَانَتْ مُنتَهى غرضهم، وقال قتادة في تفسير هذه الآية: إِذا شئْتَ رأَيْت هذا الموصُوفَ صاحِبَ دنيا، لها يغضبُ، ولها يرضَى، ولها يفرح، ولها يهتَمُّ ويحزن، فكأَنَّ قتادةَ صَوَّرها في العصاةِ، ولا يترتب ذلك إِلا مع تأوُّل الرَّجَاءِ على بابه؛ لأن المؤمِنَ العاصِيَ مستَوْحِشٌ من آخرته، فأما على التأويلِ الأول، فمن لا يخافُ اللَّه، فهو كَافِرٌ.
وقوله: {واطمأنوا بِهَا}: تكميلٌ في معنى القناعةِ بها، والرفْضِ لغيرها.
وقوله: {والذين هُمْ عَنْ آياتنا غافلون}: يحتمل أنْ يكون ابتداء إِشارةٍ إِلى فرقةٍ أُخرَى، ثم عقَّب سبحانه بذكْر الفرقة الناجيَةِ، فقال: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم...} الآية، الهدايةُ في هذه الآية تحتملُ وجْهين:
أحدهما: أن يريد أنَّه يديمهم ويثبِّتهم.
الثَّانِي: أنْ يريد أنه يرشدُهم إِلى طريق الجِنانِ في الآخرة.
وقوله: {إيمانهم} يحتملُ أَنْ يريد: بسبب إِيمانهم، ويحتمل أن يكونَ الإِيمانُ هو نَفْس الهُدَى، أيْ، يهديهم إِلى طريق الجنة بنور إِيمانهم. قال مجاهد: يكون لهم إِيمانُهم نوراً يمشُونَ به، ويتركَّب هذا التأويل، على ما رُوِيَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَنَّ العَبْدَ المُؤْمِنَ، إِذَا قَامَ مِنْ قَبْرِهِ لِلْحَشْرِ تَمَثَّلَ لَهُ رَجُلٌ جَمِيلُ الوَجْهِ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ فَيَقُودُهُ إِلَى الجَنَّةِ، وبعَكْسِ هذا في الكَافِرِ»، ونحو هذا مما أسنده الطبري وغيره.